فصل: كتاب الزكاة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم السنن



.ومن باب الصلاة على القبر:

قال أبو داود: حدثنا سليمان بن حرب ومسدد قالا: حَدَّثنا حماد عن ثابت، عَن أبي رافع، عَن أبي هريرة «أن امرأة سوداء أو رجلا كان يَقُمُّ المسجد ففقده النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عنه فقيل مات فقال ألا آذنتموني به قال دلوني على قبره فدلوه فصلى عليه».
قوله: «يقم» معناه يكنس والقمام الكُناسة وفيه بيان جواز الصلاة على القبر لمن لم يلحق الصلاة على الميت قبل الدفن.

.ومن باب كراهية الذبح عند الميت:

قال أبو داود: حدثنا يحيى بن موسى البلخي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا عَقْر في الإسلام».
قلت: كان أهل الجاهلية يعقرون الإبل على قبر الرجل الجواد يقولون نجازيه على فعله لأنه كان يعقرها في حياته فيطعمها الأضياف فنحن نعقرها عند قبره لتأكلها السباع والطير فيكون مطعما بعد مماته كما كان مطعما في حياته.
قال الشاعر:
عقرت على قبر النجاشي ناقتي ** بأبيضَ عَضب أخلصته صياقله

على قبر من لو أنني مت قبله ** لهانت عليه عند قبري رواحله

ومنهم من كان يذهب في ذلك إلى أنه إذا عقرت راحلته عند قبره حشر في القيامة راكبًا ومن لم يعقر عنه حشر راجلا، وكان هذا على مذهب من يرى البعث منهم بعد الموت.

.ومن باب في البناء على القبر:

قال أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يقعد على القبر وأن يقصص وأن يبنى عليه».
قلت: نهيه عن القعود على القبر يتأول على وجهين: أحدهما أن يكون ذلك في القعود عليه للحديث. والوجه الآخر كراهة أن يطأ القبر بشيء من بدنه، وقد روي أن النبي ما رأى رجلا قد اتكأ على قبر فقال لا تؤذ صاحب القبر، والتقصيص التجصيص والقَصة شيء شبيه بالجص.

.ومن باب المشي بين القبور في النعل:

قال أبو داود: حدثنا سهل بن بكار حدثنا الأسود بن شيبان عن خالد بن سمير السدوسي عن بشير بن نهيك عن بشير مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينا أنا أماشي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حانت منه نظرة فإذا رجل يمشي في القبور عليه نعلان فقال يا صاحب السِّبتيتين ويحك الق سِبْتيتك فنظر الرجل فلما عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم خلعهما فرمى بهما».
قال: وحدثنا محمد بن سليمان الأنباري حدثنا عبد الوهاب بن عطاء عن سعيد عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه أنه ليسمع قرع نعالهم».
قال الأصمعي السبتية من النعال ما كان مدبوغا بالقرظ.
قلت: وخبر أنس يدل على جواز لبس النعل لزائر القبور وللماشي بحضرتها وبين ظهرانيها.
فأما خبر السبتيتين فيشبه أن يكون إنما كره ذلك لما فيهما من الخيلاء وذلك أن نعال السبت من لباس أهل الترفه والتنعم قال الشاعر يمدح رجلًا:
يُحذى نعال السبت ليس بتوأم

وقال النابغة:
رقاق النعال طيب حجزاتهم ** يحيون بالريحان يوم السباسب

يقول هم أعفاء الفروج لا يحلون أزرهم لريبة، والسباسب عيد كان لهم في الجاهلية فأحب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون دخوله المقابر على زي التواضع ولباس أهل الخشوع.

.باب ما يقول الرجل إذا مر بالقبور:

قال أبو داود: حدثنا القعنبي عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، عَن أبي هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فقال السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون».
قلت: فيه من العلم أن السلام على الموتى كهو على الأحياء في تقديم الدعاء على الاسم ولا يقدم الاسم على الدعاء كما تفعله العامة، وكذلك هو في كل دعاء الخير كقوله تعالى: {رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت} [هود: 73] وكقوله عز وجل: {سلام على إل ياسين} [الصافات: 130] وقال في خلاف ذلك: {وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين} [ص: 78] فقدم الاسم على الدعاء وفيه أنه سمى المقابر دارًا فدل على أن اسم الدار قد يقع من جهة اللغة على الربع العامر المسكون وعلى الخراب غير المأهول كقول الشاعر:
يا دار مَيَّة بالعلياء والسند

ثم قال:
أَقْوَت وطال عليها سالف الأبد

وأما قوله: «وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» فقد قيل إن ذلك ليس على معنى الاستثناء الذي يدخل الكلام لشك وارتياب ولكنه عادة المتكلم يُحسِّن بذلك كلامه ويزينه كما يقول الرجل لصاحبه إنك إن أحسنت إلي شكرتك إن شاء الله وإن ائتمنتني لم أخنك إن شاء الله في نحو ذلك من الكلام وهولا يريد به الشك في كلامه. وقد قيل أنه دخل المقبرة ومعه قوم مؤمنون متحققون بالإيمان والآخرون يظن بهم النفاق فكان استثناؤه منصرفا إليهم دون المؤمنين فمعناه اللحوق بهم في الإيمان وقيل إن الاستثناء إنما وقع في استصحاب الإيمان إلى الموت لا في نفس الموت.

.ومن باب كيف يصنع بالمحرم إذا مات:

قال أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا جرير عن منصور عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «وقصت برجل محرم ناقته فقتلته فأُتي به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اغسلوه وكفنوه ولا تغطوا رأسه ولا تقربوه طيبا».
قوله: «وقصت به ناقته» يريد أنها صرعته فدقت عنقه وأصل الوقص الدق أو الكسر.
وفيه من الفقه أن حرم الرجل في رأسه وإن المحرم إذا مات سن به سنة الأحياء في اجتناب الطيب.
جاء في النسخة الكتانية ما نصه: آخر الكتاب والحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلم، يتلوه في الثاني كتاب الزكاة، وكتب بمدينة السلام في المدرسة النظامية في الجانب الشرقي، وتم في شهر صفر من سنة سبع وثمانين وأربعمائة.

.كتاب الزكاة:

قال أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا الليث عن عُقيل عن ابن شهاب الزهري أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عَن أبي هريرة قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب قال عمر بن الخطاب لأبي بكر رضي الله عنهما كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إلّه إلا الله فمن قال لا إلّه إلاّ الله عصم مني ماله ونفسه إلاّ بحقه وحسابه على الله».
قال أبو بكر رضي الله عنه: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال ولله لو منعوني عِقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه فقال عمر بن الخطاب فوالله ما هو إلاّ أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.
قال أبو داود رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري بإسناده وشعيب بن أبي حمزة والزبيدي عن الزهري وعنبسة عن يونس عن الزهري فقالوا عناقًا.
قال أبو سليمان: هذا الحديث أصل كبير في الدين وفيه أنواع من العلم وأبواب من الفقه وقد تعلق الروافض وغيرهم من أهل البدع بمواضع شبه منه ونحن نكشفها بإذن الله ونبين معانيها والله المعين عليه والموفق له.
ومما يجب تقديمه في هذا أن يعلم أن أهل الردة كانوا صنفين صنف منهم ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعادوا إلى الكفر وهم الذين عناهم أبو هريرة بقوله وكفر من كفر من العرب وهذه الفرقة طائفتان إحداهما أصحاب مسيلمة من بني حنيفة وغيرهم الذين صدقوه على دعواه في النبوة وأصحاب الأسود العنسي ومن كان من مستجيبيه من أهل اليمن وغيرهم وهذه الفرقة بأسرها منكرة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم مدعية النبوة لغيره فقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه حتى قتل الله مسيلمة باليمامة والعنسي بصنعاء وانفضت جموعهم وهلك أكثرهم، والطائفة الأخرى ارتدوا عن الدين وأنكروا الشرائع وتركوا الصلاة والزكاة إلى غيرهما من جماع أمر الدين وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية فلم يكن يسجد لله سبحانه على بسيط الأرض إلاّ في ثلاثة مساجد مسجد مكة ومسجد المدينة ومسجد عبد القيس بالبحرين في قرية يقال لها جُوَاثا ففي ذلك يقول الأعور الثريني يفتخر بذلك:
والمسجد الثالث الشرقي كان لنا ** والمنبران وفصل القول في الخطب

أيام لا منبر في الناس نعرفه ** إلاّ بطيبة والمحجوج ذي الحجب

وكان هؤلاء المتمسكون بدينهم من الأزد محصورين بجواثا إلى أن فتح الله على المسلمين اليمامة فقال بعضهم وهو رجل من بني بكر بن كلاب يستنجد أبا بكر:
ألا أبلغ أبا بكر رسولًا ** وفتيان المدينة أجمعينا

فهل لكم إلى قوم كرام ** قعود في جواثا محصرينا

كأن دماءهم في كل فج ** دماء البدن يغشي الناظرينا

توكلنا على الرحمن إنا ** وجدنا النصر للمتوكلينا

والصنف الآخر هم الدين فرقوا بين الصلاة والزكاة فأقروا بالصلاة وأنكروا فرض الزكاة ووجوب أدائها إلى الإمام وهؤلاء على الحقيقة أهل بغي وإنما لم يدعوا بهذا الاسم في ذلك الزمان خصوصا لدخولهم في غمار أهل الردة فأضيف الاسم في الجملة إلى الردة إذ كانت أعظم الأمرين وأهمهما وأرخ مبدأ قتال أهل البغي بأيام علي بن أبي طالب إذ كانوا متفردين في زمانه لم يختلطوا بأهل شرك وفي ذلك دليل على تصويب رأي علي رضي الله عنه في قتال أهل البغي وأنه إجماع من الصحابة كلهم، وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين للزكاة من كان يسمح بالزكاة ولا يمنعها إلاّ أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي وقبضوا على أيديهم في ذلك كبني يربوع فإنهم قد جمعوا صدقاتهم وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فمنعهم مالك بن نويرة عن ذلك وفرقها فيهم وقال في شعر له:
فقلت لقومي هذه صدقاتكم ** مصررة... أخلافها لم تجرد

سأجعل نفسي دون ما تتقونه ** وأرهنكم يوما بما قلته يدي

وقال بعض شعرائهم ممن سلك هذه الطريقة في منع الزكاة يحرض قومه ويأمرهم على قتال من طالبهم بها.
أطعنا رسول الله ما دام بيننا ** فيا عجبا ما بال ملك أبي بكر

وإن الذي سألوكم فمنعتم ** لكالتمر أو أحلى لديهم من التمر

سنمنعهم ما دام فينا بقية ** كرامًا على العراء في ساعة العسر

قلت: وفي أمر هؤلاء عرض الخلاف ووقعت الشبهة لعمر رضي الله عنه فراجع أبا بكر رضي الله عنه وناظره واحتج عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إلّه إلاّ الله فمن قال لا إلّه إلاّ الله فقد عصم نفسه وماله». وكان هذا من عمر رضي الله عنه تعلقا بظاهر الكلام قبل أن ينظر في آخره ويتأمل شرائطه فقال له أبو بكر إن الزكاة حق المال يرد أن القضية التي قد تضمنت عصمة دم ومال معلقة بإيفاء شرائطها والحكم المعلق بشرطين لا يجب بأحدهما والآخر معدوم ثم قايسه بالصلاة ورد الزكاة إليها فكان في ذلك من قوله دليل على أن قتال الممتنع من الصلاة كان إجماعًا من رأي الصحابة ولذلك رد المختلف فيه إلى المتفق عليه فاجتمع في هذه القضية الاحتجاج من عمر بالعموم ومن أبي بكر بالقياس ودل ذلك على أن العموم يخص بالقياس وأن جميع ما يتضمنه الخطاب الوارد في الحكم الواحد من شرط واستثناء مراعى فيه ومعتبر صحته به فلما استقر عمر رضي الله عنه صحة رأي أبي بكر رضي الله عنه وبان له صوابه تابعه على قتال القوم، وهو معنى قوله فلما رأيت أن الله قد شرح صدر أبي بكر عرفت أنه الحق يشير إلى انشراح صدره بالحجة التي أدلى بها والبرهان الذي أقامه نصا ودلالة.
وقد زعم قوم من الروافض أن عمر رضي الله عنه إنما أراد بهذا القول تقليد أبي بكر رضي الله عنه وأنه كان يعتقد له العصمة والبراءة من الخطأ وليس ذلك كما زعموه وإنما وجهه ما أوضحته لك وبينته.
وزعم زاعمون منهم أن أبا بكر رضي الله عنه أول من سمى المسلمين كفارا وأن القوم كانوا متأولين في منع الصدقة وكانوا يزعمون أن الخطاب في قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} [التوبة: 103] خطاب خاص في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره وأنه مقيد بشرائط لا توجد فيمن سواه وذلك أنه ليس لأحد من التطهير والتزكية والصلاة على المتصدق ما للنبي صلى الله عليه وسلم ومثل هذه الشبهة إذا وجد كان مما يعذر فيه أمثالهم ويرفع به السيف عنهم فكان ما جرى من أبي بكر عليهم عسفا وسوء سيرة. وزعم بعض هؤلاء أن القوم كانوا قد اتهموه ولم يأمنوه على أموالهم إلى ما يشبه هذا الكلام الذي لا حاصل له ولا طائل فيه.
قلت: وهؤلاء قوم لا خلاف لهم في الدين وإنما رأس مالهم البَهتُ والتكذُّب والوقيعة في السلف، وقد بينا أن أهل الردة كانوا أصنافا منهم من ارتد عن الملة ودعا إلى نبوة مسيلمة وغيره، ومنهم من ترك الصلاة والزكاة وأنكر الشرائع كلها وهؤلاء الذين سماهم الصحابة كفارا ولذلك رأى أبو بكر سبي ذراريهم وساعده على ذلك أكثر الصحابة واستولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه جارية من سبي بني حنيفة فولدت له محمد بن علي الذي يدعى ابن الحنفية ثم لم ينقض عصر الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتد لا يسبى.
فأما مانعو الزكاة منهم المقيمون على أصل الدين فإنهم أهل بغي ولم يسموا على الانفراد عنهم كفارا وإن كانت الردة قد أضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدين في منع بعض ما منعوه من حقوق الدين، وذلك أن الردة اسم لغوي وكل من انصرف عن أمر كان مقبلا إليه فقد ارتد عنه، وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ومنع الحق فانقطع عنهم اسم الثناء والمدح بالدين وعلق بهم الاسم القبيح لمشاركتهم القوم الذين كان ارتدادهم حقا ولزوم الاسم إياهم صدقا.
فأما قوله تعالى: {خد من أموالهم صدقة تطهرهم} [التوبة: 103] وما ادعوه من وقوع الخطاب فيه خاصا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن خطاب كتاب الله تعالى على ثلاثة أوجه خطاب عام كقوله: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} [المائدة: 6] الآية وكقوله: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} [البقرة: 183] في نحو ذلك من أوامر الشريعة.
وخطاب خاص للنبي صلى الله عليه وسلم لا يشركه في ذلك غيره وهو ما أبين به عن غيره بسمة التخصيص وقطع التشريك كقوله تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} [الإسراء: 79] وكقوله: {خالصة لك من دون المؤمنين} [الأحزاب: 50]. وخطاب مواجهة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو وجميع أمته في المراد به سواء كقوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل} [الإسراء: 78] وقوله: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98] وكقوله: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} [النساء: 120] في نحو ذلك من خطاب المواجهة فكل من دلكت له الشمس كان عليه إقامة الصلاة واجبة وكل من أراد قراءة القرآن كانت الاستعاذة معتصما له وكل من حضره العدو وخاف فوت الصلاة أقامها على الوجه الذي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنها لأمته ومن هذا النوع قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} فعلى القائم بعده بأمر الأمة أن يحتذي حذوه في أخذها منهم وإنما الفائدة في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب أنه هو الداعي إلى الله سبحانه والمبين عنه معنى ما أراده فقدم اسمه في الخطاب ليكون سلوك الأمة في شرائع الدين على حسب ما ينهجه ويبينه لهم. وعلى هذا المعنى قوله: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1] فافتتح الخطاب بالتنويه باسمه خصوصا ثم خاطبه وسائر أمته بالحكم عموما وربما كان الخطاب له مواجهة والمراد به غيره كقوله: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك} [يونس: 94] إلى قوله: {فلا تكونن من الممترين} [البقرة: 147] ولا يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم قد شك قط في شيء مما أنزل عليه وكقوله: {أن اشكر لي ولوالديك} [لقمان: 14] وقال: {وبالوالدين إحسانا} [البقرة: 83] وهذا خطاب لم يتوجه عليه ولم يلزمه حكمه لمرين أحدهما أنه لم يدرك والديه ولا كان واجبا عليه لو أدركهما أن يحسن إليهما ويشركهما إحسان الآباء المسلمين وشكرهم.
وأما التطهير والتزكية والدعاء من الإمام لصاحب الصدقة فإن الفاعل لها قد ينال ذلك كله بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيها وكل ثواب موعود على عمل من الطاعات كان في زمان حياته صلى الله عليه وسلم فإنه باق غير منقطع بوفاته وقد يستحب للإمام ولعامل الصدقة أن يدعو للمتصدق بالنماء والبركة في ماله ويرجى أن الله يستجيب له ذلك ولا يخيب مسألته فيه.
قلت: ومن لواحق بيان ما تقدم في الفصل الأول من ذكر وجوب إيتاء الزكاة وأدائها إلى القائم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل آخر كلامه عند وفاته قوله: «الصلاة وما ملكت» أيمانهم ليعقل أن فرض الزكاة قائم كفرض الصلاة وأن القائم بالصلاة هو القائم بأخذ الزكاة ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه والله لأقتلن من فرق بين الصلاة والزكاة استدلالًا بهذا مع سائر ما عقل من أنواع الأدلة على وجوبها والله أعلم.
فإن قيل كيف تأولت أمر هذه الطائفة التي منعت الزكاة على الوجه الذي ذهبت إليه وجعلتهم أهل بغي أرأيت إن أنكرت طائفة من أهل المسلمين في زماننا فرض الزكاة وامتنعوا من أدائها إلى الإمام هل يكون حكمهم حكم أهل البغي قيل لا فإن من أنكر فرض الزكاة في هذا الزمان كان كافرًا بإجماع المسلمين.
والفرق بين هؤلاء وبين أولئك القوم أنهم إنما عذروا فيما كان منهم حتى صار قتال المسلمين إياهم على استخراج الحق منهم دون القصد إلى دمائهم لأسباب وأمور لا يحدث مثلها في هذا الزمان منها قرب العهد بزمان الشريعة التي كان يقع فيها تبديل الأحكام ومنها وقوع الفترة بموت النبي صلى الله عليه وسلم وكان القوم جهالا بأمور الدين وكان عهدهم حديثا بالإسلام فتداخلتهم الشبهة فعذروا كما عذر بعض من تأول من الصحابة في استباحة شرب الخمر قوله تعالى: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} [المائدة: 93] فقالوا نحن نشربها ونؤمن بالله ونعمل الصالحات ونتقي ونصلح. فأما اليوم فقد شاع دين الإسلام واستفاض علم وجوب الزكاة حتى عرفه الخاص والعام واشترك فيه العالم والجاهل فلا يعذر أحد بتأويل يتأول في إنكارها. وكذلك الأمر في كل من أنكر شيئا مما أجمعت عليه الأمة من أمور الدين إذا كان منتشرًا كالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان والاغتسال من الجنابة وتحريم الزنا والخمر ونكاح ذوات المحارم في نحوها من الأحكام إلاّ أن يكون رجل حديث عهد بالإسلام لا يعرف حدوده فإذا أنكر شيئا منه جهلا به لم يكفر وكان سبيله سبيل أولئك القوم في تبقية اسم الدين عليه. فأما ما كان الإجماع فيه معلومًا من طريق علم الخاصة كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها وإن قاتل العمد لا يرث وأن للجدة السدس وما أشبه ذلك من الأحكام، فإن من أنكرها لا يكفر بل يعذر فيها لعدم استفاضة علمها في العامة وتفرد الخاصة بها.
قلت: وإنما عرض الوهم في تأويل هذا الحديث من رواية أبي هريرة ووقعت الشبهة فيه لمن تأوله على الوجه الذي حكيناه عنهم لكثرة ما دخله من الحذف والاختصار وذلك لأن القصد لم يكن به سياق الحديث على وجهه وذكر القصة في كيفية الردة منهم وإنما قصد به حكاية ما جرى بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وما تنازعاه من الحجاج في استباحه قتالهم ويشبه أن يكون أبو هريرة إنما لم يعن بذكر القصة وسوقها على وجهها كلها اعتمادا على معرفة المخاطبين بها إذ كانوا قد علموا وجه الأمر وكيفية القصة في ذلك فلم يضر ترك إشباع البيان مع حصول العلم عندهم به والله أعلم.
ونبين لك أن حديث أبي هريرة مختصر غير مستقصى إن عبد الله بن عمر وأنس بن مالك قد روياه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بزيادة شروط ومعان لم يذكرها أبو هريرة.
فأما حديث أنس فقد رواه أبو داود في كتاب الجهاد من السنن، قال: حَدَّثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني حدثنا عبد الله بن المبارك عن حميد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمدًا عبده ورسوله وأن يستقبلوا قبلتنا وأن يأكلوا ذبيحتنا وأن يصلوا صلاتنا فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلاّ بحقها لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين». حدثناه ابن داسة عنه.
وأما حديث ابن عمر ففيه زيادة شرط الزكاة، وقد رواه محمد بن إسماعيل البخاري في الجامع الصحيح، قال: حَدَّثنا عبد الله بن محمد حدثنا حَرَمي بن عمارة حدثنا شعبة عن واقد بن محمد قال: سمعت أبي يحدث عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأن محمدًا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلاّ بحق الإسلام وحسابهم على الله». حدثنيه خلف بن محمد حدثنا إبراهيم بن معقل عنه.
قلت: وفي هذا الحديث حجة لمن ذهب إلى أن الكفار مخاطبون بالصلاة والزكاة وسائر العبادات وذلك لأنهم إذا كانوا مقاتلين على الصلاة والزكاة فقد عقل أنهم مخاطبون بهما.
وأما معنى الحديث وما فيه من الفقه فمعلوم أن المراد بقوله: «حتى يقولوا لا إلّه إلاّ الله» إنما هم أهل الأوثان دون أهل الكتاب لأنهم يقولون لا إلّه إلاّ الله ثم أنهم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف.
وقوله: «وحسابهم على الله» معناه فيما يستسرون به دون ما يخلون به من الأحكام الواجبة عليهم في الظاهر.
وفيه دليل أن الكافر المُستسر بكفره لا يتعرض له إذا كان ظاهره الإسلام ويقبل توبته إذا أظهر الإنابة من كفر علم بإقراره أنه كان يستسر به وهو قول أكثر العلماء.
وذهب مالك بن أنس إلى أن توبة الزنديق لا تقبل ويحكى ذلك أيضًا عن أحمد بن حنبل، وفي قوله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على وجوب الصدقة في السخال والفصلان والعجاجيل وأن واحدة منها تجزي عن الواجب في الأربعين منها إذا كانت كلها صغارًا ولا يكلف صاحبها مسنة.
وفيه دليل على أن حول النتاج حول الأمهات ولو كان يستأنف بها الحول لم يوجد السبيل إلى أخذ العناق.
وقد اختلف الناس فيما يجب في السخال فقال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن لا شيء فيها، وقد اختلف فيها، عَن أبي حنيفة وهذا أظهر أقاويله وإلى هذا ذهب أحمد بن حنبل وحكي ذلك عن سفيان الثوري، وقد روي عن سفيان أيضًا أنه قال يأخذ المصدق مسنة ثم يرد على رب المال فضل ما بين المسنة والصغيرة التي في ماشيته، وقال مالك فيها مسنة وقال الشافعي يؤخذ من أربعين سخلة واحدة منها وهو قول الأوزاعي وأبي يوسف وإسحاق بن راهويه.
وأما العقال فقد اختلفوا في تفسيره، فقال أبو عبيد القاسم بن سلام العقال صدقة عام. وقال غيره العقال الحبل الذي يعقل به البعير وهو مأخوذ مع الفريضة لأن على صاحبها التسليم، وإنما يقع قبضها برباطها.
وقال ابن عائشة كان من عادة المصدق إذا أخذ الصدقة أن يعمد إلى قرن وهو الحبل فيقرن به بين بعيرين أي يشده في أعناقهما لئلا تشرد الإبل فتسمى عند ذلك القرائن وكل قرينين منها عقال.
وقال أبو العباس محمد بن يزيد النحوي إذا أخذ المصدق أعيان الإبل قيل أخذ عقالا وإذا أخذ أثمانها قيل أخذ نقدا وأنشد لبعضهم:
أتانا أبو الخطاب يضرب طبله ** فرد ولم يأخذ عقالًا ولا نقدا

وتأول بعض أهل العلم قوله لو منعوني عقالا على معنى وجوب الزكاة فيه إذا كان من عروض التجارة فبلغ مع غيره منها قيمة نصاب.
وفيه دليل على وجوب الزكاة في عروض التجارة، وقد زعم داود أن لا زكاة في شيء من أموال التجارات.
وفي الحديث دليل على أن الواحد من الصحابة إذا خالف سائر الصحابة لم يكن شاذا وأن خلافه يعد خلافًا.
وفيه دليل على أن الخلاف إذا حدث في عصر فلم ينقرض العصر حتى زال الخلاف وصار إجماعًا أن الذي مضى من الخلاف ساقط كأن لم يكن.
وفيه دليل على أن الردة لا تسقط عن المرتد الزكاة الواجبة في أمواله.